قالوا " ميكونو " .. فكُنا
" !
الحالة تلو الحالة ، الاختبار تلو الآخر ،
الإعصار تلو الإعصار ، تتابع الشدائد ، فما يزداد أهل عُمان إلا صلابة وجلدا ،
ومايزداد صفهم إلا لحمة ومتانة ، فأهل عُمان كالقلب الواحد ، كالجسد الواحد ،
يتنفسون ذات الأنفاس ، أكسجينهم " عُمان " ، وحبهم عُمان بكل مافيها ،
وكل ماعليها ، كيف لا ، والتاريخ يشهد أن الشجاعة والعزة والأنفة والاحتراف والجلد
كلها صفات تسري في عروقهم ، بل أنها مغروسة
غرساً في جيناتهم يتناقلونها عبر الأجيال والأزمان ، كيف لا وهم من أصلاب أجداد
كانوا ذوي بأس شديد وقلوب كالحديد ، وهمم تلامس السماء وعزائم تفلق الصخر ، شاهقة كجبال
ظفار ، شامخة كجبال مسندم ، فهم أحفاد مالك بن فهم وأحمد بن ماجد والمهلب ابن أبي
صفرة والخليل ابن أحمد الفراهيدي وغيرهم من أعلام عُمان ممن حفروا أسمائهم في
أبرزصفحات التاريخ " المشرقة العطرة " وكتبوها بماء الذهب ، مضيفين ببطولاتهم وعلومهم
لهذا العالم ولهذه الإنسانية الشيء الكثير .
قدر الله سبحانه وتعالى ، أن يختبرإيمان
أهل عمان وصبرهم وجلدهم بأن تتعرض عُمان لأنواء مناخية شديدة مرات عديدة ، آخرها
ذلك الإعصار الشديد الذي ضرب عروس عمان " محافظة ظفار " وأمتد تأثيره
لمحافظة الوسطى ، والذي تمت تسميته ب " ميكونو " ، وعمان من أقصاها إلى
أقصاها كانت تتابع بترقب متسائلة " ما الذي يحمله ذلك الضيف من مفاجئات ؟
" جاء الإعصار وذهب ولله الحمد ، مخلفاً الكثير من الأضرار المادية التي
وبطبيعة الحال ستحتاج إلى بعض الوقت لإعادتها لتكون أفضل مما كانت والتي وبلا شك
ستقوم الجهات المختصة بالعمل عليها ليل نهار . وبالمقابل ومن لطف المولى عز وجل ورحمته
الواسعة أن كانت الأضرار البشرية محدودة نسبياً ، طبعاً لا نقلل أبداً من مصاب
أولائك الذين خسروا عزيزاً بل نتقدم إليهم بأحر التعازي ومشاعر المواساة في مصابهم
الجلل سائلين المولى عز وجل أن يجبر كسرهم وأن يجمعهم بمن فقدوا في جنات عرضها السماوات
والأرض ، اللهم آمين .
عموماً ، قلة الأضرار البشرية في هذه
الحالة مقارنة بقوة الإعصار من جانب ومقارنة بأرقام الضحايا في الحالات المدارية
السابقة إذ يؤكد فإنما يؤكد على الفعالية العالية في إدارة الأوضاع قبل وخلال وبعد
الإعصار ، والاحترافية العالية التي أظهرتها الجهات المختصة في التعامل مع الحالة
وهو مايعكس استفادة كبيرة من التجارب السابقة ونضجاً كبيراً وتقدماً في فهم معطيات
هذه الحالات وفي التأهيل والتدريب والجاهزية للتعامل معها ، بداية من الاحترافية
العالية المتقدمة في القراءة والتحليل والتنبؤ العلمي التي أبدتها الأرصاد الجوية
والتي أصبحنا نفاخر بها باقي الدول في كفائتها وكفايتها ودقتها وشفافيتها وطريقة
تفاعلها مع المواطنين عبر منصات التواصل الإجتماعي ، مروراً بالاجراءات الاحترازية
التي قامت بها الجهات المختصة ، فهاهي وزارة الصحة بالتعاون مع الأجهزة العسكرية
المختلفة تقوم بإخلاء المستشفيات والمراكز الطبية المتوقع تعرضها لتأثيرات الإعصار
من جانب ، وهاهي تقوم بتجهيز العيادات وأماكن تقديم الرعاية الطبية اللازمة خلال
فترة الإعصار ، وهاهي تقوم بنقل المرضى المحتاجين لعناية طبية خاصة خلال فترة
الإعصار لمستشفيات أخرى في شمال عمان مع توفير كافة الاحتياجات الأساسية ، وهاهي
الجهات العسكرية والأمنية المختلفة تقوم بإجلاء السكان سواء كانوا عمانيين أم
أجانب – دون تمييز - من المناطق المتوقع تعرضها لتأثيرات الإعصار ونقلهم لأماكن
آمنة مع توفير جميع المستلزمات الأساسية بالتعاون مع مختلف الجهات الأخرى كوزارة
التربية والتعليم ومكاتب المحافظين والولاة في صورة انسانية في قمة الرقي ، وهاهي
كذلك وبكامل جاهزيتها تقف متأهبة للتعامل وبشكل سريع ومباشر وفوري مع أي نداء
استغاثة ، وهاهي وزارة التربية والتعليم تقوم بتوفير المدارس لتحتضن من تم إجلاؤهم
وتقوم بمتابعة الوضع وتأجيل الامتحانات مراعاة لظروف الطلبة في تلك المناطق ،
وهاهم رجال الإعلام والصحافة بشتى تخصصاتهم ووظائفهم يقومون بتغطية كل ماتقوم به
الجهات المختلفة خلال تلك الأنواء وكذلك تقوم بنقل مايحصل ومايتم خلالها بكل أمانة
وشفافية وموضوعية دون مبالغة أو تقليل ، فكان شعارهم خلال هذه الأنواء " نقل
الصورة كاملة " تحت مسمى " التغطية مستمرة " ، وهاهم الأبطال المساندين
لأولائك الإعلاميين والصحفيين من مخرجين ومعدين وسواق وفنيين وغيرهم يعرضون أنفسهم
للخطر في سبيل تيسير رسالة الإعلام والصحافة ، وهاهي الجهات المعنية بقطاعات
الكهرباء والماء والاتصالات والخدمات اللوجستية تبذل جهدها لتكون على جاهزية تامة
للتعامل مع أي انقطاعات قد تحصل خلال الحالة بأسرع وقت ممكن ، وهاهم المواطنون في
ظفار والوسطى وكل عمان يستمعون بإنصات وإلتزام ومسؤولية كبيرة لتعليمات الجهات
المعنية ومايصدر عنها من نشرات وتحذيرات للخروج من هذه الحالة بأقل خسائر ممكنة ،
وهو مايعكس نضجاً فكرياً وإحساساً بالمسؤولية لدى الأغلب باستثناء بعض الحالات
الاستثنائية التي لا يمكن القياس عليها ، وهاهم المواطنون في جميع ربوع الوطن سواء
كانوا بشكل أفراد أو تحت مظلات الفرق الأهلية والتطوعية ومؤسسات المجتمع المدني
يعدون العدة لإغاثة ومساعدة أخوتهم في ظفار مباشرة عندما تسمح لهم الظروف الجوية بذلك
، والملاحظ أن تلك الاستعدادات بدأت لدى العديد منهم مع بداية الإعلان عن الإعصار ،
فقد كانت شاحناتهم وسياراتهم جاهزة للتحرك مباشرة ، وقد وصل الكثير منهم فعلا
مباشرة مع انتهاء الإعصار ، وأثناء الحالة كان الجميع بلا استثناء يتابع التلفاز
ووسائل التواصل الاجتماعي بكل شغف وترقب وقلوبهم متضرعة للمولى عز وجل بأن يحفظ
عمان وأخوتهم في ظفار . كان الجميع بلا استثناء من وحدات حكومية وشركات ومؤسسات
قطاع خاص ومؤسسات مجتمع مدني ومواطنون يعملون بتكاملية واضحة وتناغم تام كخلية نحل
تعمل ليل نهار من أجل الإنسانية والوطن .
يالها من ملحمة وطنية راقية ، يالها من
مواطنة صالحة تلك التي أظهرها الجميع خلال هذه الأنواء ، يالها من احترافية عالية
تلك التي أظهرها العاملون بالجهات المختلفة والمتطوعون الذين عملوا تحت ظروف صعبة
جداً معرضين أنفسهم وأرواحهم للخطر ، مقدمين أرواحهم وأنفسهم للوطن وأبنائه على
حساب أنفسهم وعائلاتهم ، ياله من إحساس عالٍ بالمسؤولية تجاه عمان ذلك الذي أثبتته
بعض شركات القطاع الخاص من خلال مبادراتها الإنسانية الكريمة والتي هي بكل تأكيد
فاتحة خير تبشر وتشجع باقي الشركات والمؤسسات أن تحذوا حذوها ، فهنيئا لك عمان
أبنائك .. بل أبطالك ، وهنيئاً لنا بكم ، فرغم أنهم قد أطلقوا على هذا الإعصار اسم
" ميكونو " إلا أن العمانيين أثبتوا أنهم قد " كانوا " بقدر مستوى
الحدث وأنهم استطاعوا التعامل معه بكل اقتدار وأن أهل عمان بتوفيق من الله قادرين
على التعامل مع الحالات المختلفة ، نعم ، قد أسموه " ميكونو " .. إلا أن
التجربة العمانية أثبتت أن أهل عمان بتكاتفهم وتعاضدهم ومواطنتهم الصالحة دائماً
" كانوا .. وسيكونوا " .
سعود الفارسي